ادعمنا

نظرية أثر الفراشة - Butterfly Effect Theory

يمكن تبسيط نظرية أثر الفراشة في مقولة "جملة صغيرة تؤدي إلى نتائج كبيرة"، فحسب النظرية، إن الأحداث متناهية الصغر قد تشكل نتائج هائلة الاتساع؛ حيث يستخدم مصطلح تأثير الفراشة للتعبير عن نظرية "الفوضى"؛ وهي نظرية فلسفية فيزيائية تعتقد بأن الأسباب الصغيرة لها تأثير واضح على النتائج على المدى البعيد، وقد تدعم نظرية الفوضى عشوائية سلوك نظام ما نتيجة للظروف الأولية التي قد تأتي على شكل رفرفة فراشة مثلًا، وبناءً على ذلك فإن جزءًا كبيرًا من حياتنا لا يسير في اتجاه محدد وثابت، بل غالبًا ما يأخذ شكلًا عشوائيًا وفوضويًّا، وفقًا للنظرية.

 أي إن مصطلح "تأثير الفراشة" يوضح أنه قد يُنْتج عن أحداث صغيرة كوارث كبيرة؛ فقد تكون للأشياء الصغيرة تأثيرات غير خطية على نظام معقد، حيث يتم تخيل الفكرة مع فراشة ترفرف بجناحيها وتسبب إعصارًا، بالطبع فعل واحد مثل فراشة ترفرف بجناحيها لا يمكن أن يتسبب في إعصار، ومع ذلك يمكن للأحداث الصغيرة أن تكون بمثابة محفزات تعمل في ظروف البداية.

والهدف من تأثير الفراشة ليس الحصول على النفوذ، كما كتب الجنرال (ستانلي ماكريستال Stanley McChrystal ) فكثيرًا ما يساء استخدام مصطلح "تأثير الفراشة"؛ حيث أصبح مرادفًا للنفوذ، من خلال فكرة الشيء الصغير الذي له تأثير كبير، وهذا ينافي وجهة نظر (لورينز  Lorenz) التي تقول إن الأشياء الصغيرة قد لا يكون لها تأثير أو قد يكون لها تأثير هائل، ومن المستحيل فعليًّا معرفة أيهما سيكون هو الحال.

 

الجذور النظرية لأثر الفراشة:

القصة وراء هذه النظرية، إنه في بداية الستينيات كان عالم الرياضيات والأرصاد الجوية الأمريكي )إدوارد نورتون لورينز  Edward Norton Lorenz يجرب نظامًا ابتكره للتنبؤ بحالة الطقس فأجرى تجربتين: في التجربة الأولى أدخل بيانات رقمية بـ 6 خانات عشرية بعد الفاصلة، وبالتجربة الثانية وفي محاولة منه لكسب الوقت، أدخل الأرقام نفسها لكنه اختصر خاناتها العشرية، فظهرت له رسمتان بيانيتان لكلتا التجربتين؛ النصف الأول من الرسمتين جاء متشابها، والنصف الثاني مختلفا، فظن (لورينز) أن خللًا أصاب النظام في البداية إلا أنه أدرك الخطأ الذي ارتكبه عندما أهمل 3 خانات من أصل 6 بعد الفاصلة اختصارًا للوقت، معتقدًا أن هذه الكسور الصغيرة جدًا لن تغير بالنتيجة؛ لبساطة تأثيرها، ومن هنا جاء مصطلح "تأثير الفراشة"؛ حيث التفاصيل الصغيرة التي لا ندرك تأثيرها قد تكون سببًا في خلق التغيير مع التراكم والوقت.

وفي أثناء الاجتماع الـ 139 للرابطة الأمريكية لتقدم العلوم the American Association for the Advancement of science  - منذ ما يقارب 45 سنة – طرح (لورينز) سؤالًا، هو "هل تسبب رفرفة أجنحة الفراشة في البرازيل حدوث إعصار في تكساس؟"، قائلا إن الغرض من هذه السؤال هو توضيح فكرة أن بعض الأنظمة الديناميكية المعقدة قد تُظهر سلوكيات غير متوقعة.
وأصبحت هذه الفكرة فيما بعد الأساس لفرع الرياضيات المعروف باسم "نظرية الفوضى"، والتي طبقت في سيناريوهات لا تعد ولا تحصى منذ طرحها، وتحدى (لورينز) الرياضي والفلكي الفرنسي (بيير سيمون لابلاس Pierre – Simon Laplace) الذي زعم أن لا مكان لعدم القدرة على التنبؤ في هذا الكون.

 حيث بعد اكتشاف (نيوتن Newton)  لقوانين الحركة أضحى العالم عبارة عن نظام مُحكم يتحرك وفق قوانين ثابتة، إذ من الممكن التنبؤ ليس فقط بما سيحدث في المستقبل بل من الممكن التحكم في الظاهرة نفسها إذا تمت معرفة الأسباب التي تؤدي إلى حدوثها، وبهذا يستطيع الإنسان التحكم بالعالم والسيطرة عليه ليوجهه إلى ما يخدم مصالحه.
وجاء في عام 1814 العالم الفرنسي (لابلاس) ليؤكد أن وضع الكون في الحاضر هو نتيجة وضع الكون في الماضي وهو سبب وضعه في المستقبل، وأن المستقبل مفتوح وواضح مثل الماضي، ويستطيع الإنسان التنبؤ به وهو ما يسمى "مبدأ الحتمية"، إلى أن جاء العالم الأسكتلندي (ماكسويلMaxwell ) عام 1876 ليؤكد أن الفروق البسيطة في الأوضاع المبدئية ستؤدي إلى فروق في الوضع النهائي ولكن في حالات استثنائية، وفي عام 1890 جاء العالم (هنري بونكاريه Henri Poincare) ليقول إن الوضع الجديد لأي جسم يعتمد اعتمادًا كبيرًا وحساسًا على وضعه الأولي، وأن الحركات الميكانيكية معقدة بصورة يصعب توقعها، مشيرا إلى نظرية الفوضى والتي يتنج عنها عدم القدرة على التنبؤ بمستقبل أي نظام؛ كون التغيرات البسيطة والطفيفة في ظروفها الأولية لها أثر كبير في المستقبل، وذلك عكس مبدأ الحتمية الذي تبناه كل من (لابلاس، ونيوتن)، وكان العلماء في تلك الفترة رافضين لنظرية الفوضى لأنها كشفت عن تواضع العلم وعجزه وعدم سيطرته على الطبيعة، وجاء العالم (إدوارد) في 1961 بتجربة بينت أن المتغيرات البسيطة والضئيلة قد تؤدي إلى إحداث تغييرات كبيرة في النتائج، وهذا ما يطلق عليه "أثر الفراشة"؛ حيث يمكن للتغييرات البسيطة التي لا يعريها الإنسان أي اعتبار أن تؤدي إلى نتائج كبيرة غير متوقعة. 

وذكر (لورينز) أن الرأي القائل إن الأحداث التي غيرت العالم كانت أشياء مثل القنابل الكبيرة أو السياسين المهووسين أو الزلازل الضخمة أو الحركات السكانية الواسعة، أُدرك الآن أنه رأي قديم جدًا؛ فالأشياء التي تغير العالم وفقًا لنظرية الفوضى هي الأشياء الصغيرة.

 

أثر التطورات النظرية على علم السياسة:

انعكس أمر نظرية "أثر الفراشة" على عالم السياسة؛ إذ دخلت في عالم من عدم الوثوقية أو حالة عدم التعيين، فالظواهر السياسية اليوم ليست بظواهر قابلة للتنبؤ كما كانت في الماضي؛ وذلك لإتيان الأحداث من خارج السياق المألوف، وبالتالي أصبح التحليل السياسي والتنبؤ السياسي في مهب الريح بما أدى إلى تكريس مبدأ الفوضى العماء، وظهرت ميول في عالم السياسة تَعتبر أن الطبيعي في الوجود هو زيادة معاملات الفوضى، لهذا بدأت نظريات السياسة تميل إلى اعتبار أن النظام الدولي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية كان خطأ مجافيًا للطبيعة بخلاف السعي نحو التنظيم، وهذا ما سُمي بـ"فلسفة السياسة ما بعد الحداثة" التي تعتمد على النسبوية وتلغي أي تعيين وتؤدي إلى العبثية السياسة وتحيل كل القضايا إلى اللامعنى، وقد ظهر في الولايات المتحدة الأمريكية تيار مؤيد لمبدأ العماء والفوضى الخلاقة (المحافظون الجدد) 

هذا وقد مرت السياسة بثلاث مراحل:

 1- مرحلة الفكر السياسي الأخلاقي الممتد من سقراط، الذي دعا إلى التسامح وكيف يجب أن تكون العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فالحاكم بالنسبة له  يجب أن يكون فيلسوفًا هدفه الرئيس هو البحث عن الخير وتحقيقه، وأفلاطون الذي يعد أول من وضع نظامًا سياسيًا، فرأى أن السياسة ليست أكثر من امتداد طبيعي للأخلاق، وهو الذي تخيل كيف يجب أن يكون شكل الدولة وما يجب فعله كي تكون الدولة ناجحة  أو (ما يجب أن يكون)، فصاغ في ذلك كتابه "الجمهورية"، الذي تأثر بيه الفارابي في صياغة أرائه السياسية؛ حيث تأثر بالفلسفة الأخلاقية والسياسية لدى أفلاطون فربط السياسة بالأخلاق، إلا أن هذه السياسة الأخلاقية كانت غير قابلة للتنفيذ لأن الحكم الأخير للواقع وليس للأفكار والقيم، وهي ما تسمى بالسياسة قبل الحداثة.

2- المرحلة الثانية: مرحلة السياسة الواقعية التي غلب فيها مبدأ الواقع على الأفكار والقيم، وهي مرحلة الحداثة، حيث تعينت للسياسة على مبدأ الواقع باعتبارها "فنًا للممكن"، وقد حددت اتفاقية وستفاليا شكل النظام العالمي والعلاقات الدولية في هذه المرحلة، وارتكزت هذه المرحلة في السياسة الواقعية على: الميكافيلية، الأداتية، البراجماتية والوظيفية، ومن خلال هذه العناصر الأربعة تم ممارسة السياسة، كما صُنفت هذه المرحلة تحت اسم التوازن الدولي الجديد.

وفي مرحلة الحداثة نشأت أفكار ضبط الواقع بالقوانين السياسية متأثرة بقوانين الفيزياء النيوتونية، وظهرت نظريات مصاحبة لهذه الأفكار؛ منها نظرية المؤامرة السياسية والتوقعات الاستقرائية والتاريخية، التي تتبنى فكرة "أن المستقبل آتِ من الحاضر وأن الحاضر آتِ من الماضي" لأن معرفة المستقبل مبنية على معرفة الماضي، هذا الاتجاه سرعان ما اصطدم بحقيقة أن الوقائع المستقبلية كانت وحيدة عصرها ومتفردة وليست مشابهة لأي أحداث من الماضي، مما يعني أن هناك قطيعة بين الحاضر والماضي والمستقبل (وهذا الشكل من السياسة تمت ممارسته حتى الثمانينيات من القرن العشرين؛ حيث نشأ تيار جديد، هو تيار ما بعد الحداثة). 

3- المرحلة الثالثة: صُنفت هذه المرحلة بأنها مرحلة إنهاء النظام العالمي ذو الثنائية القطبية، وقد تزامنت  مع نشوء الفيزياء الكوانتية، حيث نسفت منطق القوانين الصارمة ورسمت فهمًا جديدًا للفيزياء، فتأثرت بها السياسة باعتبارها فهمًا يقوم على أن الفروق الطفيقة تُنتج أحداثًا كبيرة وأن الفوضى العماء هي سمة الوجود الغالبة وأن المستقبل لا يمكن تعيينه سلفًا؛ فهو مشكل من عدد لا متناه من الاحتمالات، وقد ترتب على ذلك تعايش النظام الدولي مع العماء، كما أن التحليل السياسي الاستقرائي لم يعد ممكنًا في الحالات العمائية.

إن التاريخ الإنساني مُمتَلئٌ بأحداث لها من التداعيات والعواقب ما يتخطى آثارها المباشرة المتوقعة، بما تستحدثه من تطورات وتغيرات جذرية على البنى والهياكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية ولو بعد حين، سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي؛ وعلى سبيل المثال:
- الثورة الفرنسية 1789 التي كان لها عظيم التأثير على مجرى وتطور الأمور في القارة الأوروبية خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وهذا الأثر لم تظهر عواقبه وتداعياته سوى بعد عدة عقود من نهاية الثورة؛ حيث أدت الثورة الفرنسية دورًا كبيرًا في بزوغ الغرب الديموقراطي واليبرالي بدعوتها للحرية والإخاء والمساواة.

- قصف ناغازاكي حيث كانت الولايات المتحدة تعتزم في البداية قصف كوروكو اليابانية بهدف استهداف مصنع الذخيرة، وفي اليوم الذي خططت فيه للهجوم حالت الظروف الجوية الغائمة دون رؤية العسكريين للمصنع وهم يحلقون في سماء المنطقة ومرت الطائرة فوق المدينة ثلاث مرات قبل استسلام الطيارين، حيث سمع السكان المحلييون المتجمعون صوت استعداد الطائرة لإلقاء القنبلة النووية فاستعدوا لتدميرها، وباستثناء كوروكو التي لم يتم قصفها قرر العسكريون أن الهدف هي ناغازاكي، وذلك بسبب تحسن الرؤية، فجاءت الآثار المترتبة على هذا القرار حاسمة، حتى أنه لا يمكن فهم كيف كان يمكن أن يكون التاريخ مختلفًا لو لم يكن ذلك اليوم غائمًا، لذا يشار أحيانًا إلى كوروكو على أنها المدينة الأكثر حظًا في اليابان.

 

 

 

 

المصادر والمراجع:

تعرف على نظرية "تأثير الفراشة في بناء الإنسان الخائف، منشور عبر: كيو بوست، سبتمبر 2018. 

رغد المجبر، فهم نظرية تأثير الفراشة، منشور عبر الفضائيين، 2020. 

سردار هوشو، السياسة الدولية كوانتيمًا (أثر الفراشة والاحتمالات النهائية)، الشرق الأوسط الديموقراطي، أكتوبر 2020. 

حمد محمد أبو زيد، أثر جناح الفراشة: احتلال العراق والربيع العربي، معهد العربية للدراسات، 2013 وتم تحديثه في 2020.

The Butterfly Effect :Everything You Need To Know About This Powerful Mental Model ,Farnam Street Blog

إقرأ أيضاً

شارك أصدقائك المقال

ابقى على اﻃﻼع واشترك بقوائمنا البريدية ليصلك آخر مقالات ومنح وأخبار الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ

ﺑﺘﺴﺠﻴﻠﻚ في ﻫﺬﻩ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ البريدية، فإنَّك ﺗﻮاﻓﻖ ﻋﻠﻰ اﺳﺘﻼم اﻷﺧﺒﺎر واﻟﻌﺮوض والمعلوﻣﺎت ﻣﻦ الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ - Political Encyclopedia.

اﻧﻘﺮ ﻫﻨﺎ ﻟﻌﺮض إﺷﻌﺎر الخصوصية الخاص ﺑﻨﺎ. ﻳﺘﻢ ﺗﻮفير رواﺑﻂ ﺳﻬﻠﺔ لإﻟﻐﺎء الاشترك في ﻛﻞ ﺑﺮﻳﺪ إلكتروني.


كافة حقوق النشر محفوظة لدى الموسوعة السياسية. 2024 .Copyright © Political Encyclopedia